سورة الكهف - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}.
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9، 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 105- 107] يقول تعالى: إنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض {قَاعًا صَفْصَفًا} أي: سطحًا مستويًا لا عوج فيه {وَلا أَمْتًا} أي: لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} أي: بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد، وقتادة: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة. قال قتادة: لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي: وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 50، 49]، وقال: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} يحتمل أن يكون المراد: أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] ويحتمل أنهم يقومون صفوفًا صفوفا، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]
وقوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد؛ ولهذا قال مخاطبا لهم: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} أي: ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} أي: لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر {إِلا أَحْصَاهَا} أي: ضبطها، وحفظها.
وروى الطبراني، بإسناده المتقدم في الآية قبلها، إلى سعد ابن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن، نزلنا قفرًا من الأرض، ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا، من وجد عُودًا فليأت به، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به». قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذا؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها مُحْصَاة عليه».
وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي: من خير أوشر كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وقال تعالى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أي: تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء يومَ القيامة يعرف به».
أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: «يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة عند استه بقدر غَدْرته، يقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان».
وقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يعفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويُخلَّد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلى، فسرت عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشُر الله، عز وجل الناس يوم القيامة- أو قال: العبادَ- عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا» قلت: وما بهمًا؟ قال: «ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قَربَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة». قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله، عز وجل، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال: «بالحسنات والسيئات».
وعن شعبة، عن العوام بن مُزَاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة». رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] وعند قوله تعالى: {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]


{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50)}
يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، الذي أنشأه وابتداه، وبألطاف رزقه وغذاه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة.
{اسْجُدُوا لآدَمَ} أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29، 28]
وقوله {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «خُلِقت الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، خُلق آدم مما وصف لكم». فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم بأفعال الملائكة وتشبه بهم، وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم، وعصى بالمخالفة.
ونبه تعالى هاهنا على أنه {مِنَ الْجِنِّ} أي: إنه خُلِق من نار، كما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12، ص: 76]
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم، عليه السلام، أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة- قال: وكان اسمه الحارث، وكان خازنًا من خزان الجنة، وخُلقت الملائكة من نور غير هذا الحي- قال: وخلقت الجن الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار. وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال الضحاك أيضًا، عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفًا على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله. فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم فاستكبر، وكان من الكافرين. قال ابن عباس: وقوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي: من خزان الجنان، كما يقال للرجل: مكي، ومدني، وبصري، وكوفي.
وقال ابن جريج، عن ابن عباس، نحو ذلك.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: هو من خزان الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا، رواه ابن جرير من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، به.
وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن إسحاق، عن خَلاد بن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان إبليس- قبل أن يركب المعصية- من الملائكة، اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض. وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا.
وقال ابن جُرَيْج، عن صالح مولى التَّوْأمة وشريك بن أبي نَمِر، أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض. فعصى، فسخط الله عليه، فمسخه شيطانًا رجيمًا- لعنه الله- ممسوخًا، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا تَرْجُه، وإذا كانت في معصية فارجه.
وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال: كان من الجنانين، الذين يعملون في الجنة.
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه، من منكره وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات، أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
وقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال فَسَقت الرُّطَبة: إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جُحْرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد.
ثم قال تعالى مقرعًا وموبخًا لمن اتبعه وأطاعه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} أي: بدلا عني؛ ولهذا قال: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا}
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 59- 62].


{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم، لا يملكون شيئًا، ولا أشهدتهم خلقي للسموات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، كما قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سبا: 23، 22]؛ ولهذا قال: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} قال مالك: أعوانًا.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10